يقول: [والمعتبر رجحان الدليل] ففي أي قضية المعتبر هو رجحان الدليل، ولو كان مع من هو أجهل أو أقل علماً منك، [ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه] هذا من كمال العدل ((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى))[الأنعام:152] ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ))[المائدة:8] فنحن أهل السنة إن اختلفنا في مسألة على قولين، وأتى شخص فقال: قولكم يوافق قول الرافضة فهل هذا مردود؟ نقول: لا. ليس هذا بحجة، فالعبرة والحجة هي رجحان الدليل وإن وافق عليه أهل البدع، وفي هذه المسألة طرفان متقابلان: المعتزلة الذين يرجحون تفضيل الملائكة، والصوفية الذين يفضلون الأولياء، فلا يخلو أهل السنة من أنهم إما أن يوافقوا المعتزلة أو الصوفية، فلا يأتي من يقول: أنتم وافقتم الصوفية، أو أنتم وافقتم المعتزلة فلا ينظر إلى هذا، وإنما إلى رجحان الدليل.
أما ما أحدثه أهل الأهواء مما لا دليل فيه فيكفي أن تقول فيه: هذا قول الرافضة أو الصوفية ... إلى آخره؛ لأن هذا من محدثاتهم.
يقول: "والمعتبر رجحان الدليل، ولا يهجر الدليل؛ لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه بعد أن تكون المسألة مختلفاً فيها بين أهل السنة، وقد كان أبو حنيفة رحمه الله عنه يقول أولاً بتفضيل الملائكة على البشر، ثم قال بعكسه، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله" فالإمام أبو حنيفة ذكر عنه أن قال بتفضيل الملائكة، وقال: بتفضيل البشر، وقال بالتوقف ولا يوجد لدينا ما يثبت الترتيب الزمني لأقواله، وهذا يدل كما قلنا على كمال علمهم، ووجوب الاقتداء بهم في التأدب والتورع في العلم.
قال: [والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل لا على الأفضلية، ولا نزاع في ذلك] أي عندنا دليل يدل على أن هذا أفضل، ودليل يدل على أن هذا فاضل، فبين المصنف أن الأدلة التي أتى بها الطرفان إنما تدل على الفضل، فمثلاً قوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا))[الإسراء:70] وقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ))[البينة:7] هذه من الأدلة التي يذكرها من يفضل صالحي البشر على الملائكة، فنقول له: هل هذه تدل على أنهم أفضل أم على أن لهم فضلاً؟ قال: (تدل على الفضل لا على الأفضلية)؛ لأن الفضل لا نزاع فيه، وإنما النزاع في الأفضلية على الملائكة، وكذلك من يقول: ((بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ))[الأنبياء:26] * ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ))[الأنبياء:27] .. ((كِرَامًا كَاتِبِينَ))[الانفطار:11] .. ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ))[الأنبياء:20] نقول له: هذه الآيات تدل على فضل الملائكة لا على أنهم أفضل من بني آدم، وهذه فعلاً من جوامع الاستنباط، وعندما نعرض الأدلة سنرى أنها دائرة بين هذا وبين ذاك.
ثم قال: "وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك" ولم أبحث عن ترجمة لـتاج الدين هذا، والمهم أنه يقول في كتابه: [اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة ولا من بعدهم من أعلام الأئمة..] وهذا كلام خاطئ؛ لأنها مسألة أثرية سلفية صحابية، بل فيها أحاديث تأتي كحديث عبد الله بن سلام وحديث ابن عمرو، والكلام فيها وارد، وشيخ الإسلام يقول في آخر (ص 369): "وأقل ما في هذه الآثار: أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم: أن صالحي البشر أفضل من الملائكة من غير نكير منهم لذلك، ولم يخالف أحد منهم في ذلك" ثم قال: وذكر الحديث مرفوعاً كما تقدم موقوفاً عن زيد بن أسلم قال شيخ الإسلام: وزيد بن أسلم زيدٌ في علمه وفقهه وورعه، وكان علي بن الحسين يدع مجالس قومه فيأتي مجلسه فلامه الزهري في ذلك" انظروا كيف كان السلف يتطيبون المجالس ويتخيرون ما يسمعون وما يقرءون "فقال: إنما يُجلس حيث ينتفع، أو قال: حيث يجد صلاح قلبه. وقد كان يحضر مجلسه نحو أربعمائة طالب للعلم، أدنى خصلة فيهم الباذل ما في يده من الدنيا، ولا يستأثر بعضهم على بعض" هؤلاء هم طلبة العلم فعلاً "فلا يقول مثل هذا القول إلا عن بينة والكذب على الله عز وجل أعظم من الكذب على رسوله"؛ لأن الحديث فيه: {فقال الله: لا أجعل صالح من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فيكون} فالحديث إن قيل فيه: قال الله، قلنا: ليس هذا حديثاً مرفوعاً من كلام رسول الله فحسب؛ بل هو حديث قدسي، فيكون الأمر فيه أغلظ؛ لأن الكذب على الله أعظم، فالمهم أنه لو كان موقوفاً فإن السلف كانوا يتناقلونه فيما بينهم ويتحدثون به في موضوع التفضيل، فإن أتى تاج الدين أو أي شيخ وقال: هذه المسألة من بدع علم الكلام. نقول: لا. ليس الأمر كذلك بل هي أثرية سلفية صحابية كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.